سلطة القـاضي الجنائي في تقدير الأدلة
Loading...
Date
2009
Authors
Journal Title
Journal ISSN
Volume Title
Publisher
كلية الحقوق و العلوم السياسية
Abstract
في نھایة ھذا البحث ، ومن خلال دراستنا لموضوع سلطة القاضي الجنائي في تقدیر الأدلة ، خلصنا إلى أن
ھذه السلطة خاضعة لمبدأ الاقتناع الشخصي ، وھو مبدأ قدیم قدم البشریة عرف في روما القدیمة ، حیث كانت
البینات خاضعة لتقدیر القاضي ، فكان لھ الحق في إھمالھا إن لم تقنعھ دون أن یتقید بنوع من البینات ، ھذا ولقد
عرفت المجتمعات الإنسانیة نظامین أساسیین للإثبات الجنائي ، ھما نظام الأدلة القانونیة و نظام الأدلة المعنویة
الذي یرتكز على حریة الإثبات ، وفیھ یتمتع القاضي بسلطة واسعة في اختیار وسائل الإثبات وتقدیر قیمتھا
وتكوین عقیدتھ الشخصیة بشأنھا ، وفي ھذا النظام تظھر معالم سلطة القاضي الجنائي في تقدیر الأدلة بوضوح .
إن ھذا الاقتناع مبني على الجزم والیقین ، ولكن ھذه الأشیاء في الحقیقة بعیدة عن ھیمنة القانون و سیطرتھ ،
فھي كالفكرة الحرة المستقلة ً عن أي سلطة خارجیة لا یمكن فرضھا بناء على أسباب قانونیة ، بل ھي موكولة
إلى ضمیر القاضي و وجدانھ ، فالقانون الجنائي لایعترف بنظام الأدلة القانونیة لما یشكلھ من تقیید لسلطة
القاضي بحریة في اختیار وسائل الإثبات المناسبة .
والجزم والیقین الذان تبنى علیھما الأحكام الجنائیة ، إنما ھو جزم ویقین نسبي في الواقع ، لاستحالة تحقق
ذلك في الأمور المعنویة كالعدالة ، ولا یعني ھذا المبدأ أن یحكم القاضي وفق مزاجھ الشخصي ، فیجب أن یكون
لاقتناعھ سند عقلي ، لأن الاقتناع لا یبنى على التحكم ومجافاة العقل والمنطق ، وإنما غایتھ كشف الحقیقة .
ھذه السلطة التي یتمتع بھا القاضي الجنائي التي ھي الأصل والقاعدة العامة في الإثبات الجنائي لھا ما
یبررھا ، لأن الإثبات في المواد الجنائیة كما رأینا مسألة تمتاز بالتعقید ، إذ ینصب على وقائع مادیة ونفسیة من
الصعب إثباتھا بتحدید وسائلھا وقیمتھا مسبقا في نصوص قانونیة ، وإلا أصبح القاضي مجرد آلة لتطبیق ھذه
النصوص ، ولا مجال لإعمال قناعتھ بشأنھا .
ثم إن ھذه السلطة لھا أسسھا القانونیة بموجب القوانین والتشریعات الوضعیة المختلفة ، ونطاقھا واسع یمتد
إلى كل جھات القضاء الجنائي ویشمل مختلف المراحل التي تمر بھا الدعوى الجنائیة دون استثناء .
ولاستیضاح ھذه السلطة أكثر في المیدان العملي والتطبیقي تطرقنا إلیھا من خلال مختلف طرق ووسائل
الإثبات القدیمة منھا والحدیثة ، ورأینا أن تقدیر القاضي لھا حر في مجملھا ، خاصة بالنسبة للأدلة التقلیدیة ، أما
تقدیره للأدلة العلمیة على وجھ الخصوص ومدى تكوین اقتناعھ منھا ، فلقد خلصنا أنھ وبالرغم من اعتبار
البعض أنھا أدلة مقیدة لسلطة القاضي ، فیمكننا أن نفرق بین الأدلة العلمیة الغیر قاطعة الدلالة التي تخضع
لمطلق حریة القاضي في الاقتناع ، والأدلة العلمیة القاطعة ، لأن القاضي أصبح في بعض الدول التي تستعمل
ھذه الوسائل والطرق مقیدا إلى حد ما بدلالتھا وحجیتھا في الإثبات بما لا یطرح أي شك في قیمتھا .
ولكن بالرغم من ذلك ، فالقاضي یخضعھا لتقدیره من خلال الظروف المحیطة بالواقعة الإجرامیة والشخص
محل المتابعة ومدى توافقھا مع الأدلة الأخرى إن وجدت ، وھذا لیس معناه أن نقلل من أھمیة ھذه الأدلة ، لأن
ً الولوج إلى الحقیقة لا یمكن أن یكون بناء على مجرد اقتناع القاضي ، بل یجب أن یكون إلى جانبھ شریك
متخصص ھو الخبیر القضائي یساعده على حل غموض بعض الوقائع التي یستحیل على القاضي أن یتعرف- 151 -
على حقیقتھا ، لأنھا تتطلب درایة ومعرفة علمیة متخصصة ، من خلال دراسة وتحلیل الوقائع بمنھجیة
وإخضاعھا إلى أساسیات محكومة النتائج بشروط علمیة مبنیة على تحلیلات منطقیة تعزز قناعة القاضي وتدعم
افتراضاتھ بحالة الإثبات الذي ھو بصدده .
وإذا كان القاضي لا یخضع في تقدیره للأدلة إلا لضمیره ووجدانھ ـــ كأصل عام ـــ إلا أن سلطتھ لیست
مطلقة تماما ، إذ تخضع لضوابط یندرج بعضھا ضمن الضمانات التي یقررھا القانون حمایة لحقوق وحریات
الأفراد من أي تعسف ، كمبدأ العلانیة والشفھیة والمواجھة بین الخصوم ، ووجوب تسبیب القاضي لحكمھ ببیان
الأدلة ومضمونھا ، أما عن القیود الواردة على سلطة القاضي الجنائي ، فھي في الحقیقة لا تمس بحریتھ في
تقدیرھا ، إذ أن سلطتھ ثابتة لا یحدھا قید إلا فیما یخص الأدلة في حد ذاتھا من حیث كیفیة الحصول علیھا ومتى
تكون مقبولة أمام القضاء لتصلح أن تكون محلا للدعوى ، وتبعا لذلك محلا لتقدیر القاضي ، وكذلك الحال
بالنسبة للاستثناءات التي ترد على ھذه السلطة ، لأنھا تتعلق في معظمھا فقط بنوع الجریمة أو الإثبات ولا تمتد
إلى تقدیر قیمتھا ، ً عكس القرائن القانونیة القاطعة التي تشكل استثناء حقیقیا على سلطة القاضي في تقدیره لھا .
ونوضح في آخرھذه الدراسة أن مبدأ الاقتناع الشخصي مبدأ مھم یھدف إلى إظھار الحقیقة بالدرجة الأولى ،
ومع ذلك فھو لا یزال موضع انتقاد من جانب الفقھ الحدیث ، ولذلك نؤكد على ضرورة الاھتمام أكثر بھذا
الموضوع من خلال منح الضمانات الكافیة التي تكفل حقوق الأفراد وتجعل القاضي في منأى عن الضغوط
أو الاعتماد على عواطفھ الشخصیة التي قد تحید بھ عن الحقیقة التي یتوخاھا الحكم الجنائي الصادر، فلا بد إذن
من إطار شكلي و موضوعي منظم ومحدد تمارس فیھ ھذه السلطة بالمنطق المعقول ولما لا أن یسبب القاضي
اقتناعھ ، فلا یكفي تسبیبھ للحكم فقط ببیان الأدلة ومضمونھا ، ولا مانع من أن یبین كیف توصل إلى ھذا الاقتناع
فلیس في ذلك أي انتقاص لحریتھ وسلطتھ في ذلك ، طالما أنھ لا یخشى من عدالة الأحكام التي یصدرھا ، وھو
یھدف إلى تحقیقھا بموجب ھذه السلطة الممنوحة لھ ، كما نرى أن خیر ضمان لممارسة القاضي لمھامھ على
أحسن وجھ لا یتم إلا إذا كان القاضي ذا رصید علمي و قانوني یجعلھ مؤھلا للقیام بواجبھ بالطریق الأنسب
و متمكنا في حل غموض القضایا التي تعرض علیھ ، وبالتالي یستوجب الأمر تخصصا في میدان الإثبات
الجنائي ، دون إھمال الاطلاع على القوانین المقارنة للاستفادة من محتواھا ، ولكي تتضح الأمور بشكل أكبر
بالنسبة للقاضي الذي یؤدي دورا حساسا في المجتمع ، فإذا كان المشرع ھو من ینشئ الحقوق و ینص علیھا ،
فالقاضي ھو الذي یكفل تطبیقھا في الواقع